الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{إنا أعطيناك الكوثر} قوله تعالى{إنا أعطيناك الكوثر} قراءة العامة. {إنا أعطيناك} بالعين. وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف{أنطيناك} بالنون؛ وروته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي لغة في العطاء؛ أنطيته: أعطيته. و{الكوثر}: فوعل من الكثرة؛ مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر. والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا. قال سفيان: قيل لعجوز رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت بكوثر؛ أي بمال كثير. والكوثر من الرجال: السيد الكثير الخير. قال الكميت: والكوثر: العدد الكثير من الأصحاب والأشياع. والكوثر من الغبار: الكثير. وقد تكوثر إذا كثر؛ قال الشاعر: واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولا: الأول: أنه نهر في الجنة؛ رواه البخاري عن أنس والترمذي أيضا وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. و"روى الترمذي أيضا والأخبار في حوضه في الموقف كثيرة، ذكرناها في كتاب التذكرة . وأن على أركانه الأربعة خلفاءه الأربعة؛ رضوان الله عليهم. وأن من أبغض واحدا منهم لم يسقه الآخر، وذكرنا هناك من يُطرد عنه. فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك. ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر أو الحوض كوثرا، لكثرة الواردة والشاربة من أمة محمد عليه السلام هناك. ويسمى به لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير. الثالث: أن الكوثر النبوة والكتاب؛ قاله عكرمة. الرابع: القرآن؛ قاله الحسن. الخامس: الإسلام؛ حكاه المغيرة. السادس: تيسير القرآن وتخفيف الشرائع؛ قاله الحسين بن الفضل. السابع: هو كثرة الأصحاب والأمة والأشياع؛ قاله أبو بكر بن عياش ويمان ابن رئاب. الثامن: أنه الإيثار؛ قال ابن كيسان. التاسع: أنه رفعة الذكر. حكاه الماوردي. العاشر: أنه نور في قلبك دلك علي، وقطعك عما سواي. وعنه: هو الشفاعة؛ وهو الحادي عشر. وقيل: معجزات الرب هدي بها أهل الإجابة لدعوتك؛ حكاه الثعلبي، وهو الثاني عشر. الثالث عشر: قال هلال بن يساف: هو لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقيل: الفقه في الدين. وقيل: الصلوات الخمس؛ وهما الرابع عشر والخامس عشر. وقال ابن إسحاق: هو العظيم من الأمر؛ وذكر بيت لبيد: أي عظيم. قلت: أصح هذه الأقوال الأول والثاني؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الكوثر. وسمع أنس قوما يتذاكرون الحوض فقال: ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض، لقد تركت عجائز خلفي، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حوضه يقول الشاعر: وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا. {فصل لربك وانحر} قوله تعالى{فصل} أي أقم الصلاة المفروضة عليك؛ كذا رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال قتادة وعطاء وعكرمة{فصل لربك} صلاة العيد ويوم النحر. {وانحر} نسكك. و قلت: وأما من قال إنها صلاه العيد؛ فذلك بغير مكة؛ إذ ليس بمكة صلاة عيد بإجماع، فيما حكاه ابن عمر. قال ابن العربي: فأما مالك فقال: ما سمعت فيه شيئا، والذي يقع في نفسي أن المراد بذلك صلاة يوم النحر، والنحر بعدها. وقال علي رضي الله عنه ومحمد بن كعب: المعنى ضع اليمني على اليسرى حذاء النحر في الصلاة. وروي عن ابن عباس أيضا. وروي عن علي أيضا: أن يرفع يديه في التكبير إلى نحوه. وكذا قال جعفر بن علي{فصل لربك وانحر} قال: يرفع يديه أول ما يكبر للإحرام إلى النحر. و أي المتقابل. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: منازلنا تتناحر؛ أي نتقابل، نحر هذا بنحر هذا؛ أي قبالته. وقال ابن الأعرابي: هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب؛ من قولهم: منازلهم تتناحر؛ أي تتقابل. وروي عن عطاء قال: أمره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره. وقال سليمان التيمي: يعني وارفع يدك بالدعاء إلى نحرك. وقيل{فصل} معناه: واعبد. وقال محمد بن كعب القرظي{إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وأنحر} يقول: إن ناسا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله؛ وقد أعطيناك الكوثر، فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله. قاله ابن العربي: والذي عندي أنه أراد: أعبد ربك، وانحر له، فلا يكن عملك إلا لمن خصك بالكوثر، وبالحري أن يكون جميع العمل يوازي هذه الخصوصية من الكوثر، وهو الخير الكثير، الذي أعطاكه الله، أو النهر الذي طينه مسك، وعدد آنيته نجوم السماء؛ أما أن يوازي هذا صلاة يوم النحر، وذبح كبش أو بقرة أو بدنة، فذلك يبعد في التقدير والتدبير، وموازنة الثواب للعبادة. والله أعلم. قد مضى القول في سورة الصافات في الأضحية وفضلها، ووقت ذبحها؛ فلا معنى لإعادة ذلك. وذكرنا أيضا في سورة الحج جملة من أحكامها. قال ابن العربي: ومن عجيب الأمر: أن الشافعي قال: إن من ضحى قبل الصلاة أجزأه، والله تعالى يقول في كتابه{فصل لربك وأنحر}، فبدأ بالصلاة قبل النحر، وقد وأما ما روي عن علي عليه السلام{ فصل لربك وانحر} قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة خرجه الدار قطني، فقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: لا توضع فريضة ولا نافلة؛ لأن ذلك من باب الاعتماد. ولا يجوز في الفرض، ولا يستحب في النفل. الثاني: لا يفعلها في الفريضة، ويفعلها في النافلة استعانة؛ لأنه موضع ترخص. الثالث: يفعلها في الفريضة والنافلة. وهو الصحيح؛ لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمني على اليسرى من حديث وائل بن حجر وغيره. قال ابن المنذر: وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وحكي ذلك عن الشافعي. واستحب ذلك أصحاب الرأي. ورأت جماعة إرسال اليد. وممن روينا ذلك عنه ابن المنذر والحسن البصري وإبراهيم النخعي. قلت: وهو مروي أيضا عن مالك. قال ابن عبدالبر: إرسال اليدين، ووضع اليمني على الشمال، كل ذلك من سنة الصلاة. واختلفوا في وأما قلت: وهو المشهور من مذهب مالك؛ ل {إن شانئك هو الأبتر} أي مبغضك؛ وهو العاص بن وائل. وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات، ثم مات البنون وبقي البنات: أبتر. فيقال: إن العاص وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه، فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفا؟ فقال: مع ذلك الأبتر. وكان قد توفي قبل ذلك عبدالله بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من خديجة؛ فأنزل الله جل شأنه{إن شانئك هو الأبتر}0 أي المقطوع ذكره، من خير الدنيا والآخرة. وذكر عكرمة والبترية: فرقة من الزيدية؛ نسبوا إلى المغيرة بن سعد، ولقبه الأبتر. وأما الصنبور فلفظ مشترك. قيل: هو النخلة تبقى منفردة، ويدق أسفلها ويتقشر؛ يقال: صنبرا أسفل النخلة. وقيل: هو الرجل الفرد الذي لا ولد له ولا أخ. وقيل: هو مثعب الحوض خاصة؛ حكاه أبو عبيد. وأنشد: ما بين صنبور إلى الإزاء والصنبور: قصبة تكون في الإداوة من حديد أو رصاص يشرب منها. حكى جميعه الجوهري رحمه الله. والله سبحانه وتعالى أعلم
|